أكاديمية الاتحاد الدولي للناشرين : معالجة فجوة المهارات في مجال النشر العالمي
كان لجائحة كورونا العالمية أثرها الكبير في منظومة النشر، إذ دفعتها إلى تبني التقنيات الرقمية بسرعة حتى تُحافظ على وجود الكتب في أيدي القراء، وأسهمت الحلول الرقمية في تسريع وتيرة اتجاهات صناعة النشر العالمية التي كانت تتطور بوتيرة أبطأ بكثير قبل ذلك. فمنذ حوالي خمسة عشر عاماً، بدأت الابتكارات والتقنيات الرقمية الرائدة مثل أجهزة القراءة الإلكترونية، والكتب الصوتية، والبيع عبر الإنترنت، بالتأثير في أنواع مهارات الكوادر البشرية المطلوبة لتحقيق النجاح في قطاع النشر. وفي حين ركزت المناقشات والحوارات الماضية التي تناولت الفجوات في مهارات الكوادر البشرية العاملة في مجال النشر بشكل عام على المهارات الرقمية اللازمة للتكيّف مع عمليات البيع عبر الإنترنت والصيغ الرقمية، كشفت الجائحة العالمية أن النقص في المهارات أعمق من ذلك بكثير.
لقد مثلت الجائحة العالمية نقطة تحول في صناعة النشر من شأنها أن تُفضي إلى تحولات مفاجئة في السوق لم يشهد القطاع مثيلاً لها، وهذا بدوره سيُحدِث فجوة في المهارات سيتسع نطاقها إلى ما هو أبعد من المهارات الرقمية. ومما لا شك فيه أن احتياجات مهارات الكوادر البشرية تختلف باختلاف مستوى نضج السوق ومدى التطور الرقمي، فنجد مثلاً أن الأسواق النامية عموماً تتطلب مزيداً من الدعم، غير أنني أعتقد أن مخاوف الصناعة الحالية بشأن فجوة المهارات أصبحت تختلف اختلافاً كبيراً عن المناقشات والسجالات السابقة، إذ تواجه منظومة النشر في الوقت الحالي تحدياً يتمثل في ضرورة تطوير المهارات اللازمة لها والارتقاء بها والتكيّف مع موظفي جيل الألفية وجيل ما بعد الألفية (جيل Z) الذين يتحلّون بالبراعة والخبرة الكبيرة في التكنولوجيا، ويتسمون بالاستقلالية، ويتمتعون بمنظور فريد حول كيفية تعريف النجاح في الحياة والعمل.
وعلى مدار العامين الماضيين، تحدثت مع أكثر من 150 من كبار المسؤولين والمديرين التنفيذيين في صناعة النشر من جميع مستويات سلاسل القيمة في أكثر من 40 دولة، وتضمن ذلك دور النشر، والموزعين، والمؤلفين، والمعلمين، ومعارض الكتب، ودعاة الثقافة والمعرفة، ونشطاء حرية التعبير. وقد شكلت هذه المناقشات الأساس للبحوث الرائدة التي أُجريت في الاتحاد الدولي للناشرين (IPA) حول تأثير الجائحة العالمية في صناعة النشر والحاجة إلى تطوير مهارات الكوادر البشرية من أجل تعزيز مرونة الصناعة وقدرتها على الصمود واستدامتها.
جهود توجه الصناعة لسد فجوة مهارات الكوادر البشرية العاملة في مجال النشر
تبنى الاتحاد الدولي للناشرين، في فبراير 2021، التوصيات الواردة في الدراسة التي أجراها بعنوان من الاستجابة إلى التعافي (From Response to Recovery) لإعداد مبادرة لدعم هذه الصناعة، أطلق عليها اسم “الميثاق الدولي لتعزيز استدامة ومرونة قطاع النشر” (InSPIRe)، لقيادة الجهود الرامية إلى تعافي صناعة النشر العالمية وإنشاء أكاديمية الاتحاد الدولي للناشرين (IPA Academy). ومع بدء أعمال وأفكار التطوير في مارس 2021، تبلورت فكرة أكاديمية الاتحاد الدولي للناشرين من أجل دعم الأعضاء في تطوير مهارات الأعمال الأساسية بهدف بناء هيئات أكثر استدامة ومرونة وقدرة على الصمود بالإضافة إلى تطوير مهارات قيادية وإدارية جديدة للاستفادة من فرص ما بعد الجائحة.
يُذكر أن الأكاديمية قد تم تدشينها في 7 مارس 2022، لتزود منظومة النشر بالأدوات اللازمة للتكيّف مع سوق سريعة التغيّر لا يزال التأثير الكامل للجائحة العالمية فيها غير واضح. وتتميّز هذه الأكاديمية بأنها فريدة من نوعها، إذ إنها تسعى إلى تلبية احتياجات تطوير المهارات لأعضاء الاتحاد الدولي للناشرين والأفراد التابعين لهم في كل من أسواق النشر المتقدمة والنامية.
تركز الأكاديمية في المقام الأول على احتياجات تطوير المهارات ذات الأولوية لهيئات واتحادات الناشرين، والناشرين عموماً على المستوى الوطني، وكانت تلك الاحتياجات قد كشفت عنها الأبحاث التي أجراها الاتحاد الدولي للناشرين. وإضافة إلى ذلك، توفر الأكاديمية لمنظومات النشر الناشئة مجموعة المهارات الأساسية التي تتيح لها استجابة أفضل للتسارع الرقمي، في حين يمكن لمنظومات النشر في الأسواق الأكثر تقدماً أن تبني الكفاءات اللازمة للمجالات الناشئة في طليعة الصناعة مثل تنفيذ ممارسات الأعمال المستدامة.
بدء العمل: خلف كواليس الإطلاق والتدشين الإلكتروني لأكاديمية الاتحاد الدولي للناشرين (IPA Academy)
يأتي إطلاق الأكاديمية بفضل الرعاية السخية المقدمة من هيئة الشارقة للكتاب، ويصاحب ذلك دورات جرى إعدادها وتطويرها بالاشتراك والتعاون مع شركاء المحتوى مثل مركز النشر التابع لكلية الدراسات المهنية في جامعة نيويورك بالولايات المتحدة، ومركز أكسفورد العالمي للنشر، ومركز التدريب على النشر في المملكة المتحدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التسجيل في الأكاديمية متاح أمام الراغبين من أعضاء الاتحاد الدولي للناشرين للاستفادة من مواردها التعليمية، كما تفتح الأكاديمية أبوابها أيضاً أمام عدد يُقدَّر بنحو 15000 ناشر من التابعين لأعضاء الاتحاد. وبذلك، تكون الأكاديمية قد وصلت بالفعل إلى أعضاء الاتحاد والناشرين أنفسهم في أكثر من 70 دولة. أضف إلى ذلك أنه سيجري سريعاً توسيع نطاق العروض الأولية المقدمة في الأكاديمية، التي تشمل حوارات لكبار المديرين التنفيذيين في الصناعة ودورات تدريبية متخصصة في مهارات النشر المعيارية، وذلك استجابة للملاحظات الآتية من المستفيدين الأوائل من خدمات الأكاديمية.
إنه ليسعدني للغاية العمل مع شركاء أكاديمية الاتحاد الدولي للناشرين، الذين يرون مدى أهمية تطوير مهارات الكوادر البشرية العاملة في مجال النشر لتعافي الصناعة بعد الجائحة. وفي هذا السياق، أود أن أشير إلى أن شرف قيادة تطوير الأكاديمية أتاح لي الفرصة لإشراك كبار المسؤولين التنفيذيين في مجال النشر على مستوى العالم والتعاون معهم بشأن مستقبل صناعتنا والمهارات اللازمة لتحقيق النجاح والأهداف المنشودة في المستقبل. وانطلاقاً من هذه الحوارات، أدركت أنه في الوقت الذي تعافت فيه بعض أسواق النشر تماماً، فلا يزال وضع الأسواق الأخرى هشاً وصعباً في بناء مهارات الكوادر البشرية والوصول إلى كفاءاتها المرجوة للتعافي والازدهار.
وطوال فترة الجائحة، ألهمتني الكثير من الأمثلة في صناعة النشر وحفزتني على الاستفادة من المرونة والبراعة اللتين كان لهما الفضل في الحفاظ على إبقاء الكتب بأيدي القراء في بيئة تتسم بتغيّرها السريع المتسم بالغموض. لقد دفعني هذا الابتكار في الأوقات الصعبة إلى تبني التغيّرات في نموذج الأعمال، والبحث عن الدروس والعبر المستفادة من تجارب الآخرين، ومشاركة معرفتي لتعم الفائدة. وأود أن أنوّه هنا إلى أن زملاءنا في صناعة النشر يحتاجون إلى دعمنا الآن أكثر من أي وقت مضى؛ وأكاديمية الاتحاد الدولي للناشرين ما هي إلا إحدى الطرق لمواجهة هذا التحدي.