معارض الكتاب المستقبلية… هل تنتقل إلى عالم الميتافيرس؟
حين أرى ما كُتِبَ مؤخراً حول مستقبل تقنية الميتافيرس، تقفز إلى ذهني على الفور حواراتنا بشأن التأثيرات المستمرة لقطاع النشر على مستقبل معارض الكتاب. فالحوار الدائر الآن بخصوص تطور الإنترنت من الجيل الثاني (ويب 2.0) إلى الجيل الثالث (ويب 3.0) الأكثر انفتاحاً وإبهاراً يشبه في جانبٍ كبيرٍ منه النقاشات المتداولة حالياً في أوساط قطاع النشر العالمي حول مستقبل معارض الكتاب.
ربما يُنظر في نهاية المطاف إلى الجائحة باعتبارها لحظةً فاصلة حفّزت الابتكار في مجال معارض الكتاب. ولا أدل على ذلك مما شهدناه خلال العام 2021 من تحوّل معارض الكتاب إلى نموذج هجين يجمع بين الحضور الشخصي التقليدي والرقمي الافتراضي في خطوةٍ كانت مهمة للتغلّب على العوائق المتواصلة أمام مشاركة الجمهور في المعارض. ويمكننا أن نطلق على هذا التحول الجيل الثاني من معارض الكتاب (معرض الكتاب 2.0). غير أن استمرار الجائحة فرضَ على معارض الكتاب اعتماد مزيد من التغييرات الدائمة — وهو تطورٌ سأطلق عليه الجيل الثالث من معارض الكتاب (معرض الكتاب 3.0).
عندما شرع الاتحاد الدولي للناشرين في إجراء بحث أولي حول تأثيرات الجائحة على قطاع النشر في نهاية عام 2020، برزت عدة نماذج لابتكارات تنتمي إلى الجيل الثاني من معارض الكتاب (معرض الكتاب 2.0) في مواجهة قرارات تعليق الفعاليات، وفرض قيود على حركة السفر، واضطرابات سلسلة التوريد. وكانت ابتكارات الجيل الثاني تلك ذات أهمية خاصة في البلدان التي تعتمد أسواق النشر فيها بشكل كبير على معارض الكتاب الوطنية في تحقيق نسبة كبيرة من مبيعات الكتب السنوية. ففي جورجيا، على سبيل المثال، تم تنظيم معرض تبليسي الدولي للكتاب افتراضياً وتغطيته إعلامياً عبر البث المباشر على وسائل التواصل الاجتماعي وكانت المبيعات عبر الإنترنت. وفي الفلبين، أقام معرض مانيلا الدولي للكتاب شراكة مع مجموعة من منصات التسوق الإلكتروني لاستضافة معرض الكتاب عبر الإنترنت وتمكين المبيعات الرقمية.
اعتبرت العديد من معارض الكتاب العالمية القرارات التي اتخذت تحت ضغط تداعيات الجائحة والمتعلّقة برقمنة الفعاليات والتغييرات الجذرية التي طالت نماذج الأعمال، بمثابة حلول مؤقتة ستفقد أهميتها بمجرد انحسار الجائحة. ولكن اتضح — بعد فوات الأوان — أن هذه كانت مجرد أمنيات.
كشفت حواراتي اللاحقة مع مسؤولي معارض الكتاب والناشرين المشاركين فيها نهايةَ عام 2021، ضمن مبادرة تعزيز استدامة ومرونة قطاع النشر، أن العديد من معارض الكتاب العالمية تدرس حالياً تبني ابتكارات هجينة وأخرى أكثر طموحاً بشكلٍ دائمٍ في مزيجٍ يُتوقع له أن يندمج رقمياً ليشكل نواة الجيل الثالث من معارض الكتاب (معرض الكتاب 3.0). وفي تناولهم لانعكاسات ظهور الجيل الثالث من معارض الكتاب على الفعاليات الأدبية، لا ينظر قادة القطاع إلى النشر الرقمي باعتباره المحرك الوحيد للتغيير — بل يفكرون أيضاً في إمكانية رسم ملامح مستقبل معارض الكتاب عبر المزج بين اتجاهات تقنية أكثر شمولاً، تتضمن — على سبيل المثال لا الحصر — الاقتصاد الإبداعي، وثقافة المؤثرين، والتلعيب (استخدام الألعاب في التسويق والأعمال والتوعية وغيرها)، وويب 3.0، وتقنية الميتافيرس.
وإذا نظرنا عن كثب، فسنجد بالفعل مؤشرات عدة للتحول الجاري إلى الجيل الثالث من معارض الكتاب. ولعل أحد أبرز الأمثلة على ذلك كان إطلاق معرض الشارقة الدولي للكتاب، عام 2016، أول كتاب بتقنية الواقع الافتراضي في العالم بعنوان “بابا زايد”، وهو معالجة تقنية مبتكرة لكتابٍ للأطفال حول سيرة الوالد المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. بالمثل، تشهد الدورة الـ53 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، والمقرر أن تتواصل فعاليتها حتى السابع من فبراير المقبل، ولأول مرة اعتماد تقنية الواقع الافتراضي ثلاثي الأبعاد لتمكين الحضور الافتراضيين من التنقل في أجنحة المعرض واستكشاف الكتب وشرائها عبر الإنترنت. ويقوم الناشرون الكبار أيضاً بتجربة تنظيم فعاليات افتراضية لعرض وتسويق إصداراتهم. ومن الأمثلة في هذا الصدد قيام دار النشر المعروفة “بنجوين راندوم” بتنظيم مهرجان كتاب افتراضي تحت شعار Book Your Summer Live بمشاركة كوكبة من المؤلفين والرسامين وشركاء التجزئة والقراء في أغسطس الماضي.
يمكن القول إذاً أن مفهوم “ميتافيرس” يمثل اتجاهاً مؤثراً للغاية، وهو ما تنبأ به بيل جيتس في تقريره لعام 2021. حيث خَلُصِ إلى أن اجتماعات اليوم الافتراضية ستنتقل إلى عالم الميتافيرس في غضون فترة لا تتجاوز سنتين أو ثلاث سنوات. ومع تحول الفعاليات الافتراضية إلى ممارسةٍ عادية بسبب ابتكارات الجيل الثاني من معارض الكتاب (معرض الكتاب 2.0)، والتي برزت لمواكبة تداعيات الجائحة، يبدو أن التحول إلى الجيل الثالث من معارض الكتاب سيكون أقرب مما نتصور.
رغم أن الكثيرين في قطاع النشر لا يزالون يفضلون الفعاليات ذات الحضور التقليدي، فإن تعزيز الوصول إلى خدمات القطاع وتمكينه من الوصول إلى شرائح جديدة من القراء بفضل ابتكارات الجيلين الثاني والثالث من معارض الكتاب سيطرح حلولاً قوية تتهاوى أمامها تحفظات أقوى المناصرين لمركزية النموذج التقليدي للمعارض. ويبدو أن الجيل الثالث من معارض الكتاب سيكون خليطاً من الفعاليات والأنشطة التقليدية والرقمية الهجينة التي تتيح للحضور خيارات المشاركة الشخصية والافتراضية على حد سواء — وهذا ما نراه يتشكل بالفعل أمام أعيننا.
لا يزال مهماً للغاية أن يواصل قطاع النشر تبني الاستراتيجياتٍ التي تمكنه من تجاوز تداعيات الجائحة وخاصةً تلك التي تقوم على المرونة وسرعة التحرك والتضامن، فالدلائل تشير بوضوح إلى أن معارض الكتاب في المستقبل قد لا تشبه كثيراً نموذج معارض الكتاب التي كانت سائدة قبل بضع سنوات. وتشير السرعة التي يتم بها اعتماد البيئات التعاونية ثلاثية الأبعاد إلى أن بعض معارض الكتاب العالمية الأكثر تقدماً قد تتبنى تقنية الميتافيرس في وقت أقرب مما كنا نتوقع في فترة ما قبل الجائحة.