Bodour Al Qasimi
4 min readAug 30, 2022

--

مستقبل المكتبات: ملامح تتشكّل ومسارات تُرسم

واجهت دولة الإمارات العربية المتحدة قبل عقدٍ من الزمن تحدياً مهماً تمثل في إحياء منظومة المكتبات العامة التي كانت تعاني من التقادم، حيث أظهرت دراسة أجريت في تلك الفترة حول استخدام المكتبات أن أقل من 50% من السكان، وثلث الطلاب فقط، يزورون المكتبات على نحوٍ منتظم رغم دورها التاريخي المشهود في الدولة بوصفها مراكز مجتمعية تحتضن مختلف الفئات العمرية وتتيح لها فرصاً للتعلّم والتواصل، والتعرّف على التراث، وتثقيف النشء. لكن التطور الرقمي المتسارع الذي شهده الاقتصاد الإماراتي والاعتماد المبكر والواسع على التقنيات التعليمية فرض على منظومة المكتبات الوطنية التكيّف مع احتياجات المجتمع المتطورة باعتبارها ضرورةً لا غنى عنها.

أماطت تلك النتائج اللثام عن تدني مستويات ارتياد المكتبات العامة وأطلقت جرس إنذار دفعني إلى بدء العمل مع جمعية الناشرين الإماراتيين عام 2015 لفهم الأسباب التي أدت إلى تلك الظاهرة. ورغم تواضع شبكة المكتبات العامة في دولة الإمارات العربية المتحدة، مقارنة بدولٍ أخرى، فإنها تعتبر نموذجاً مصغراً للتحديات التي تواجهها أنظمة مماثلة حول العالم، في ظل سياقٍ يُلزِمُها الحفاظ على أهميتها التاريخية عبر التحول من مجرد وجهةٍ لإعارة الكتب إلى حاضنات اقتصادية ومراكز ثقافية وتعليمية تجريبية.

أصبح المفهوم التقليدي للمكتبة كمساحة محدودة وهادئة قديماً وقاصراً عن تلبية التوقعات المتنامية بأن تقوم المكتبات بإثراء المجتمعات من خلال توفير المعرفة، والترفيه، وفرص التعلّم مدى الحياة. وبات من الضروري للغاية أن تتبنى المكتبات التقليدية الرقمنة الشاملة على مستوى أنشطتها وخدماتها، نهوضاً برسالتها الجديدة كبوابات للمعرفة، والثقافة، والتعلّم.

الجائحة تعزز التحوّل في قطاع المكتبات وتبرز الحاجة إلى مزيدٍ من الحوارات النقدية

شهدت المكتبات خلال مرحلة ما قبل الجائحة ضغوطاً كبيرة تستهدف دفعها إلى تطوير دورها، وتعززت تلك المطالبات بعد الجائحة وما نجم عنها من تداعيات. وبحكم منصبي في رئاسة الاتحاد الدولي للناشرين، أتيحت لي الفرصة لقيادة سلسلة من الدراسات البحثية المبدئية تناولت سبل مساهمة الجائحة في رسم ملامح مستقبل منظومة قطاع النشر العالمي. وقدمت تلك الدراسات لمحة مثيرة للاهتمام عن الاستراتيجيات الميدانية التي تنتهجها المكتبات للتكيّف مع تلك التطورات.

لم يحصل قطاع النشر على دعم حكومي يُذكر خلال الجائحة على المستوى العالمي، فكان لزاماً عليه أن يتحد لتسريع وتيرة التعافي. ورغم أن الجماعات المعنية بتعزيز دور المكتبات تتبنى أحياناً مواقف يمكن اعتبارها مناهضةً بدرجةٍ أو أخرى للناشرين، إلا أن الجائحة دفعت الفاعلين الرئيسيين في قطاع النشر إلى التعاون المثمر والتباحث المشترك للنهوض بالقطاع ودوره في ضوء المتغيّرات الناشئة، والتي تشمل على سبيل المثال الغموض بشأن مدى تأثير الإعارة الرقمية من جانب المكتبات العامة على مبيعات الكتب، وطبيعة تأثير التحول الرقمي على تفضيلات القراء للصيغ الرقمية.

أعتقد أن الوقت قد حان لنبذ الفرقة والتباين التاريخي في وجهات النظر، وتدشين حوارٍ يجمع المكتبات والناشرين حول سبل التعايش المستقبلي ومناقشة الدور المرتقب للتحول الرقمي المتسارع في تغيير قواعد اللعبة لمنظومة قطاع النشر بأكملها. وكلي يقين أننا لسنا إزاء مواجهة وجودية؛ حيث يقدم “بيت الحكمة” في الشارقة — والذي سمي تيمناً بمؤسسةٍ علمية بارزة كانت بمثابة مظلةٍ جمعت العلماء في بغداد خلال أحد أهم عصور الحضارة الإسلامية الزاهرة لترجمة المعارف العلمية المهمة في زمنها — مثالاً على ما يمكن إنجازه من خلال التعاون الوثيق بين مختلف الأطراف المعنية ضمن منظومة قطاع النشر.

“بيت الحكمة” في الشارقة.. نموذج حي للتغيير المنشود

أثمر عملي مع جمعية الناشرين الإماراتيين لإحداث تحول في منظومة المكتبات يلبي احتياجات المجتمع الناشئة إلى خريطة طريق وطنية لتحديث شبكة المكتبات في دولة الإمارات العربية المتحدة. وللوصول إلى هذه الرؤية المشتركة للتغيير، طبقنا نهجاً شاملاً بمشاركة كافة الأطراف المعنية لتشخيص التحديات التي يواجهها نظامنا المكتبي فيما يتعلّق بالتكيّف مع التطورات المستقبلية، وتجربة الحلول الممكنة، وتعميم الحلول الناجحة.

بدأت جمعية الناشرين الإماراتيين بإجراء تقييم لاحتياجات واستخدامات مرافق المكتبات على المستوى الوطني. ونظراً للدور المحوري لأمناء المكتبات العامة في ضمان نجاح منظومتها، فقد حددنا مجموعة من المجالات والمهارات التي تحتاج إلى التحسين لدى أمناء المكتبات ووضعنا برنامجاً تطويرياً للنهوض بتلك المهارات وصقلها بالشراكة مع “جمعية المكتبات الأمريكية”. وبالتوازي مع ذلك، ركزت جمعية الناشرين الإماراتيين على دعم الجهود الرامية إلى وضع فهرس مرجعي وطني موحَّد للمؤلفات (ببليوغرافيا)، وعملت على إدراج التوعية المجتمعية بالمرافق والخدمات المكتبية ضمن أهداف الحملة الوطنية للقراءة.

حققنا عدداً من المكتسباتٍ المهمة، على رأسها توفير مكتبات مبتكرة للغاية في الحدائق، والشواطئ، ومراكز التسوق، ولكن العدد الكبير لأصحاب المصلحة والأطراف المعنية حال دون تحقيق تأثير منهجي مستدام. لذلك، حرصت اللجنة الاستشارية لبرنامج الشارقة عاصمة عالمية للكتاب (2019)، بالتشاور مع جمعية الناشرين الإماراتيين، على وضع استراتيجية لتطوير نموذجٍ حي للمكتبات المستقبلية في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأثمرت تلك الجهود عن تأسيس “بيت الحكمة” في الشارقة والذي افتتح رسمياً في ديسمبر 2020.

صمم “بيت الحكمة” كمكتبةٍ نموذجية يمكن للمكتبات الإماراتية والعالمية الأخرى أن تحذو حذوها وتستلهم تجربتها. أرادت الشارقة بناء نموذجٍ حي يجسد مكتبة المستقبل، حيث يضم “بيت الحكمة” أكثر من 300,000 كتاب رقمي و11,000 كتاب ورقي بلغات مختلفة، ومكتبة مخصصة للأطفال لتلبية مختلف احتياجات سكان الشارقة من الشباب المتمرسين في استخدام التكنولوجيا. يسهم مبنى “بيت الحكمة” في تعزيز منظومة ريادة الأعمال الناشئة بالإمارة من خلال “مخبر الجزري” وما يوفره من طابعات ثلاثية الأبعاد، فضلاً عن تشجيع تقنيات النشر المبتكرة وتوفير خدمات الطباعة عند الطلب. وإضافةً إلى ذلك، يوفر المبنى مساحات مرنة لاحتضان الفعاليات الثقافية، والتعليمية، والترفيهية.

من الواضح أننا كنا نمضي على الطريق الصحيح، حيث تم ترشيح “بيت الحكمة” لجائزة مكتبة العام في معرض لندن للكتاب هذا العام. وعلى المستوى الاتحادي، أسهمت الجهود السباقة لجمعية الناشرين الإماراتيين بخصوص المكتبات والمنجز الرائد لإمارة الشارقة في “بيت الحكمة” إلى حدٍ ما في إعلان دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخراً عن الخطة الاستراتيجية لإنشاء مكتبة وطنية جديدة.

خطوتنا التالية

تواجه المكتبات تحدياتٍ تفرض عليها التحول من مجرد تقديم خدماتٍ تقليدية إلى نموذجٍ عمل يركز على بناء علاقات وثيقة مع المجتمعات التي تخدمها. وسيتطلب هذا زيادة في الخدمات والبرامج التجريبية التي تمتد لتشمل مجالات التعليم، والترفيه، والثقافة، وغيرها من المجالات والأنشطة التي ستؤدي إلى تغيراتٍ جذرية تطال تصميم المكتبات ورسالتها.

وبالتوازي مع ذلك، لم يعد التركيز على استقطاب الجمهور إلى القاعات التقليدية كافياً كما كان عليه الحال قبل الجائحة. بل يجب أن تفكر المكتبات اليوم في تقديم خدمات رقمية تعمل على توسيع نطاق وصولها المجتمعي، وتجاوز دورها التقليدي المقتصر على استقطاب الجمهور إلى إشراك المستخدمين. ورغم أن تجربة “بيت الحكمة” لا تزال في مهدها وأمامها شوطاً طويلاً قبل تحقيق هدفها المتمثل في إطلاق العنان للابتكار المكتبي في دولة الإمارات العربية المتحدة والعالم، إلا أن رحلتها تؤكد أن المستقبل سيكون له آثار بعيدة المدى على تصميم المكتبات، وخدماتها، وتجاربها الرقمية، والمهارات والمؤهلات اللازم توفرها في القائمين عليها.

--

--

Bodour Al Qasimi

President of International Publishers Association; Founder and CEO of Kalimat Group, Kalimat Foundation and PublisHer network to empower women in publishing.